العائق الابستمولوجي ،مفهومه وأنواعه
مفهوم العائق الابستمولوجي عند غاستون باشلار
باشلار" يؤكد على ضرورة طرح مشكل المعرفة العلمية بصيغة عوائق "، و هذه العوائق الابستمولوجية هي في صميم المعرفة العلمية، فهي لا تنتج من خارج العلم بقدرما هي مرتبطة بالشروط النفسية للمعرفة الإنسانية، وهي كل ما حال و يحول في نظر باشلار بين العلم و حركتيه باستمرار. فلنلقي لمحة على أصناف من هذه العوائق متبينين الواحد منهم على حده.
عائق التجربة الأولى :
يؤكد المؤلف على أهمية التجربة الأولى بالنسبة لغا ستون باشلار، فالتجربة هي ما منه نلتقي أول مرة بالموضوعات، و أنا لنا أن تكون لنا معرفة دون هذا الإلتقاء الأول. لكن باشلار" يرى أن الوقوف عند التجربة الأولى المتمثلة في الإتصال الأول بالموضوع عائقا معرفيا للموضوعية" ، فكل معرفة تريد أن تحمل صفة العلمية لا يحصل لها ذلك إلا عندما تجعل لتجربة الأولى ما ينبغي تجاوزه دوما، إذ تحول بين تقدم العلم و عدم اغتنائه ، وهي تأخذ نقطة انطلاقها هذه التجربة فتعمل على عقلنتها. فكل معرفة علمية في نظر باشلار هي تحديد أول لمشكل ، يعمل العلماء على الإجابة عنه، في مستوى هذا التحديد يحصل للتجاوز أن يحصل وللحركية في العلم أن تتقدم، و إلا فبدون هذا التعقيل للتجربة الأولى ليس ثمة إمكان الذخر بحيثيات الموضوع. ويجعلنا نندهش منه و نتعجب ، يقول باشلار:" ينطلق الإنسان بصفة طبيعية، حيث يريد ملاحظة الظواهر الأكثر إثارة للإهتمام و الدهشة بكل غرائزه و أهوائه و بكل ذاته، لذلك لا ينبغي أن نندهش أن تكون المعرفة الأولى خطأ أولا".
فلنتبين ذلك بمثال ساقه المؤلف هو مقاومة الماء للأجسام، فالتجربة الأولى توحي لنا بأن الجسم هو من يقاوم الماء، و لكن التجربة المعقلنة توحي بالعكس من ذلك. فالماء هو من يقاوم الأجسام، لذلك كانت التجربة المعقلنة تجاوزا للتجربة الأولى، وضدا عليها . هناك إذن قطيعة لا استمرار بين- الملاحظة – التجربة الأولى و التجربة المعقلنة . يشير الأستاذ و قيدي على أهمية هذه التجربة في المجال التربوي. و مراعاتها هو من يقود نجو تعليم راق.
عائق التعميم :
يطرح سؤالا عن دينامية التعميم في المعرفة العلمية ، ثم سرعان ما يجيب: " لا شك أن للتعميم دورا ديناميا في تقدم التفكير العلمي و في فهم الظواهر، و هذا لأن التعميم ينقل الفكر من تبدد الوقائع إلى وحدة القوانين التي تفسرها ". و هناك نوع آخر من التعميم غير المستند إلى وقائع يتم السير فيه من جزئياته إلى أن يفرض قوانين معممة ، إنه مجرد متعة عقلية كما عبر عنه.
لقد كتب غاستون باشلار كتابه " تكوين العقل العلمي" مفردا كتابه هذا للحديث عن العوائق الابستمولوجية، و قد أفرد أمثلة لكل عائق حتى يتبين قصده ، فكذلك و جب علينا أن نبين كل واحد من العوائق بمثال في دراسة وقيدي عن باشلار.
يكون لبعض أساتذة الفلسفة أن يستندوا إلى منهج الإستقراء في تعميمهم لوقائع جزئية، كأن يصفوا جملة، مبدأ سقوط الأجسام لكي يستنتجوا أن كل الأجسام تسقط، وهو ما يصير بمثابة حاجز كان لا بد من تجاوزه لرؤية عين الحق.
هناك تعميم آخر و هو لنيوتن : كل الأجسام تسقط في الفراغ بنفس السرعة . و هو تعميم يصفه المؤلف بالدينامية و أقدر على فهم الظاهرة من التعميم الآخر، لذلك لا ينبغي على التعميم أن ينطلق من تلك البساطة، فمثال آخر أضربه : ليس بإمكاننا أن نرى إن كان بإمكاننا أن نرى إن كانت كل المعادن، تتمدد بفعل الحرارة، و قد بين توماس كون في نقده للإستقراء خطورة هذا المنهج في المعرفة العلمية.
هناك صورة أخرى لهذا العائق، هي المماثلة بين الظواهر و إهمال للتفصيل في دراسة بعض ظواهر التجلط و الإختمار و التجمد، فالعالم الواحد في القرن الثامن عشر، و هي المرحلة ما قبل العلمية . لا يقف عند مستوى دراسة ظاهرة واحدة كقفزة كنغر من دراسة ظاهرة إلى أخرى. وغير مراع للدقة في التفصيل، "هذا الإزدراء للتفصيل و هذا الإحتقار للدقة يبينان بوضوح كاف أن التفكير ما قبل العلمي قد انحصر في المعرفة العامة و فضل أن يبقى ضمنها"'.
عائق المعرفة العامة :
و يحيلنا هذا العائق على التعميمات السهلة السريعة التي تقوم على أساس نفعي، و هو مثل العائق السابق يتخذ التعميم خاصيته، " إن الفكر الذي يجعل من هدفه أن يوحد تفسير الظواهر و أن يقدم معرفة عامة فيعطي الأولوية للتعميم هو مراعاة اختلاف الظواهر، يجعل من سعيه هذا عائقا ابستمولوجيا " .
و مثال ذلك : تلك التعميمات الأخرى التي تنطلق من القوانين الخاصة بالتيار الكهربي لتعمم على باقي العلوم، و ليس ذلك على نحو موضوعي بل لأجل التوحيد بين مختلف الظواهر.
العائق اللفظي :
يعرض نوعا آخر من العوائق، إنه عائق اللفظة ، عائق يمتد إلى غير موضعه ليفسر بعض الظواهر التي لا قبل له بتفسيرها انطلاقا من خاصية قابليتها للتشرب، و ذلك كأن تمتد لتفسر طبيعة الهواء ، " فيكون ذلك مظهرا لامتداد لا موضوعي لهذه اللفظة ". وحتى عندما يتخلص الفكر قبل العلمي من صورة الإسفنجة، إلا أنه مع ذلك غير قادر على التخلص منها ، إذ أن وظيفة الإسفنجة ثم الإحتفاظ بها، إن بعض الألفاظ تؤدي وظيفتها على نحو أكمل دون أن تمتد إلى ما لا ممكن بالنسبة إليها تفسيره. فهي عائق ابستمولوجي على العلم أن يقطع معه، و لا يحصل ذلك للعلم إلا بأن يبعد نفسه عن كل مماثلة لا تستند إلى أساس موضوعي.
العائق الجوهراني :
إن هذا العائق يحوز ما تحوزه عليها باقي العوائق التي أشرنا إليها، و هو أكبر العوائق التي تحول بين العلم و تحقيقه لموضوعيته، فهو يجمع حدوسا أكثر تتعارض فيما بينها، إنه يحيل على أكثر من سمة في الجوهر البرانية منها و الجوانية، " هذا البحت في الظواهر عما هو خفي باعتباره جوهرا لها، أدى بالفكر ما قبل العلمي إلى ما يدعوه باشلار باسطورة الباطن " . وتلعب فيه اللغة دورا كبيرا في إرضاء الفكر قبل العلمي، إذ تحمله ما لا تحمله.
إن تجاوز هذا العائق لمن الأمور الصعبة، إذ هو مرتبط بالخيال و لايكون أمره واقفا على تصحيحه. فالخيال هو سباحة في عالم مثالي غير هذا العالم المادي ، يكون بموجب ذلك متعارضا مع التجربة ، إن أسطورة الباطن هذه متجلية في المكبوتات التي يصبح متعذرا جدا بلوغ كنهها في التحليل النفسي.
العائق الإحيائي :
إن هذا العائق كسابقيه عبارة عن وظيفة تصور العلم و سكونه في حالة سياق ما قبل العلم حسب غاستون باشلار، و هو امتداد كما هو في العقبة اللفظية في امتدادها إلى ما ليست هي أهل لتفسيره ، فكذلك العائق اللإحيائي هو امتداد للمعارف البيولوجية لتفسير ظواهر أخرى على مستوى الفيزياء أو الكيمياء.
يشير عدم قصد باشلار هنا ، توجيه نقد للمعارف البيولوجية و الشك في صحتها ، بل إنها تظل معارف صحيحة في مجالها الخاص ، فالظاهرة البيولوجية ليست هي بالظاهرة الفيزيائية أو الكيميائية.
وكمثال ما دام يقدم لنا المؤلف أمثلة لصور العوائق الابستمولوحية انطلاقا من القرن الثامن عشر الذي اطلع عليه باشلار ، ووعى خصائصه . يكون المثال هنا امتدادا لمعارف الممالك الثلاث : النباتية، الحيوانية و المعدنية " وكيف كانوا ينتقلون عند الحديث عنها من واحدة إلى أخرى ، نكتشف نوع الخلط الذي أدى إليه مثل هذا الحديث في فهم الظواهر و تفسيرها ".
تلك إذن هي بعض العوائق الابستمولوجية باعتبارها مرحلة توقف العلم ، و يوكل باشلار مهمة الكشف عن هذه العقبات إلى التحليل النفسي للمعرفة والكشف عنها من أجل تجاوز المرحلة ما قبل العلمية ، " فكما أن الكبت يعرف في مجال الحياة النفسية ضرورة لا غنى عنها للذات من أجل تكيفها مع الواقع ، فإن إنتاج العوائق الابستمولوجية بالنسبة للعمل العلمي نوع من ضرورة و ظيفية ". فالتجربة مثلا وإن كان دورها كبيرا في المعرفة العلمية ، فإن الوقوف عندها دون عقلنتها تكون تكونا لعائق ابستمولوجي ، كما أن التعميم الذي لا يلقي بالا للتفصيل أثناء توحيده للظواهر من أجل وضع قوانين عامة ، هو سكون على مستوى العلم.
إن وضع باشلار لتاريخ العلم على شكل عوائق ، هو ما بإمكانه نقد النظريات الإستمرارية ، إذ أن هذه العوائق هي دوما في صميم المعرفة العلمية ، و هو إجابة عن سؤال حركية العلم و تعطله في أحيان أخرى.
لذلك يستدرك المؤلف أن أخطاء العلم ، ليست بما هي في عمق المعرفة العلمية ، وبالتالي نفيا للأسباب الخارجية ، كالإيديولوجيا أو علاقة الفلسفة بالعلم ، فلطالما قدمت الفلسفة نظريات عامة في العلم ، شكلت عقبات ابستمولوجية. جاء بمثال أفلاطون في تمييزه بين المعرفة الحسية الناقصة والمعرفة العقلية الموجبة حتما لبلوغ الحقائق.
ما لن يكون بختام
غالبا ما يتصور كل قارئ لكتاب ذلك الختام الذي سينتهي عنده النص- الكتاب- ، ذلك يكون عادة ما يجري في أذهان من يقرؤون الروايات ، تصور يحكمه داخل الرواية نسق ينتهي غالبا بنهاية . نقيض ذلك يكون القصد تماما هنا فلا يفترض بنا أن نفترض نهاية لبحثنا أو أن نوجز أهم نقاطه رغم أهمية التكرار ، إن ما يهمنا أن نفكر فيه انطلاقا من فكر باشلار، مجرد محاولة ، هو كيف أمكن لهذا الرجل أن يفكر في قطيعة ابستمولوجية ، تفصل بين المعرفة العلمية و العامية ، لقد كانت الشواهد كثيرة أمامه و مبعثرة ، استطاع أن يبصر ما لم يبصره غيره و هو بادٍ له.
إن غاستون باشلار من أكثر الفلاسفة الذين نعتوا فلسفاتهم بنعوت مختلفة ، لا تكون هذه النعوت غير مرونة في فلسفته ، فهي ضد كل تيار مغلق و دوغمائي ، إنها تلك الفلسفة المتفتحة ، انتقائية في الوسائل ، عقلانية مطبقة و لا عقلانية وعقلانيات متعددة . إنها فلسفة أبدعت تصورا جديدا في تاريخ العلم تمثلته انطلاقا من الثورة العلمية ،التي شكلت ما منه انطلقت لوضع تصورها هذا ، للثنائية الجدلية بين العوائق و القطائع الإبستمولوجيين.
تعليقات
إرسال تعليق